You may also like
Page 1 of 4
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أيها الإخوة الأئمة الفضلاء؛ السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
سعيد بالتواصل معكم مرة أخرى في رحاب آي الذكر الحكيم؛ لنتناول معا في إطار خطة تسديد التبليغ موضوع:
“الإيمان والصحة النفسية“، انطلاقا من الآية الكريمة: ﴿يَٰٓأَيُّهَا اَ۬لنَّاسُ قَدْ جَآءَتْكُم مَّوْعِظَةٞ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَآءٞ لِّمَا فِے اِ۬لصُّدُورِ وَهُدىٗ وَرَحْمَةٞ لِّلْمُومِنِينَۖ﴾ [يونس: 57].
مستلهمين هداياتها لعلاج النفس من أمراضها حتى تكون مطمئنة سعيدة بإيمانها ويقينها في الله تعالى، متخلصة من الأمراض النفسية المختلفة، التي سببها اليأس، والقنوط، والبعد عن الله تعالى، والانزعاج من الأعراض التي تأتي بها المقادير، فنقول:
الهداية الأولى: المراد بالصحة النفسية هو: القدرة على مواجهة الأزمات النفسية التي تعتري الإنسان مثل الخوف، واليأس، والاكتئاب، وغيرها من الأمراض النفسية، وذلك بجلب السرور إليها، وإراحتها من القلق، والشعور بالبؤس، وقد سلك الأطباء النفسانيون مسالك متعددة للوصول إلى هذه الغاية؛ فلم يفلحوا كثيرا؛ لأنهم يدورون بالنفس الإنسانية في دائرة مغلقة هي الدنيا وحدها، وهي مصدر القلق بالنسبة للنفس الإنسانية، بما يتوالى فيها من الأعراض غير المرغوب فيها، مما يجعل الإنسان غيرَ المؤمن يشعر بأنه يخوض معركة خاسرة كما قال الله تعالى: ﴿وَالْعَصْرِ إِنَّ اَ۬لِانسَٰنَ لَفِے خُسْرٍ﴾ [العصر: 1]. وكما قال الشاعر:
لِدوا لِلمَوتِ وَاِبنوا لِلخَرابِ فَكُلّكُمُ يَصيرُ إِلى ذَهابِ
وسبب هذا الإخفاق في معالجة النفس وحمايتها من الأمراض المختلفة هو البعد عما خلقت له، وهو العبادة لله تعالى التي فطرت عليها، والبعد عن الروح المتعلقة بالسماء والعقل الشغوف بكشف أسرار الوجود.
وهذا إنما يتوفر في الإيمان بما جاءت به الرسل، وتنزلت من أجله الشرائع، لتُعَبِّدَ النفس لخالقها، وتربطها بسمو الروح وقناعة العقل، ورقة المشاعر، وتصل عالم الدنيا بعالم الآخرة، فتشعر بالحياة المستمرة، والخلود الدائم، وتعتبر حينئذ الأعراض البشرية فرصا للاختبار، والنجاح في قطع المسافات نحو الهدف الأسمى، وهو نيل رضوان الله والجنة.
وهنا تكون النفس مطمئنة وسعيدة، تعيش حياة طيبة في الدنيا، وترتقب فوزا عظيما في الآخرة. وهذا ما تشير إليه الآية الكريمة: ﴿يَٰٓأَيُّهَا اَ۬لنَّاسُ قَدْ جَآءَتْكُم مَّوْعِظَةٞ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَآءٞ لِّمَا فِے اِ۬لصُّدُورِ وَهُدىٗ وَرَحْمَةٞ لِّلْمُومِنِينَۖ﴾ [يونس: 57].
الهداية الثانية: سياق الآية الكريمة،
جاء قبل هذه الآية قوله تعالى: ﴿وَلَوَ اَنَّ لِكُلِّ نَفْسٖ ظَلَمَتْ مَا فِے اِ۬لَارْضِ لَافْتَدَتْ بِهِۦۖ وَأَسَرُّواْ اُ۬لنَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُاْ اُ۬لْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَۖ أَلَآ إِنَّ لِلهِ مَا فِے اِ۬لسَّمَٰوَٰتِ وَالَارْضِۖ أَلَآ إِنَّ وَعْدَ اَ۬للَّهِ حَقّٞۖ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَۖ هُوَ يُحْيِۦ وَيُمِيتُۖ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَۖ﴾ [يونس: 54-56].
إن المتأمل في هذه الآيات يجد أسباب الندامة، والحسرة ظاهرة بينة، ملخصة فيما كانت عليه النفس من الظلم، والإنكار للبعث، والجهل بما بعد الموت، وكلها عوامل مزعجة للنفس، ومرهقة لها مما يجعلها تعيش ضنكا، وحرجا واضحا، وقلقا دائما لا يزول إلا بالإيمان بالله تعالى، والعمل بمقتضى ذلك الإيمان؛ من امتثال الأمر، واجتناب النهي، وذلك ما جاءت به آية الدرس، وهو:
الهداية الثالثة: مما تهدي إليه هذه الآية المباركة أنها تنادي جميع الناس إلى هذا الخير الإيماني الذي جاء به الرسول ﷺ، من خلال القرآن الكريم، والسنة النبوية. وذلك ما يفيد أن الرسول ﷺ مرسل لجميع بني آدم بلا استثناء، وأنه جاءهم بالهداية التامة، والسعادة الأبدية، والشفاء لجميع الأمراض المادية، والمعنوية.
الهداية الرابعة: الموعظة.
والموعظة في اللغة هي: التخويف، وقال الخليل بن أحمد: هو التذكير بالخير وما يرق له قلبه([1]). والمعنى أن الموعظة هي تخويف من متوقع من أجل تجنب الوقوع فيه، ولذا يرق له القلب، ويقبل على الخير حيث هو، فتكون الموعظة سببا للانزجار عن الشر، والإقبال على الخير. كما قال تعالى: ﴿ا۟وْلَٰٓئِكَ اَ۬لذِينَ يَعْلَمُ اُ۬للَّهُ مَا فِے قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُل لَّهُمْ فِےٓ أَنفُسِهِمْ قَوْلاَۢ بَلِيغاٗۖ﴾ [النساء: 62].
ولذا فسر المفسرون الموعظة هنا بالقرآن باعتباره الزاجر عن المعاصي، والمرغب في الطاعات، فيحمل النفس على ما فيه خيرها، وصلاحها، فتستقيم، وتطمئن، وتسعد في جميع الأحوال بموعود القرآن، كما قال سبحانه: ﴿اِنَّ هَٰذَا اَ۬لْقُرْءَانَ يَهْدِے لِلتِے هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ اُ۬لْمُومِنِينَ اَ۬لذِينَ يَعْمَلُونَ اَ۬لصَّٰلِحَٰتِ أَنَّ لَهُمُۥٓ أَجْراٗ كَبِيراٗ﴾ [الإسراء: 9].
ووصفت الموعظة هنا بأنها من عند الله؛ ﴿مَّوْعِظَةٞ مِّن رَّبِّكُمْ﴾، وفي ذلك دلالتان: أن القرآن جاء لتحذير الناس من مغبة المخالفة، وما ينتج عن ذلك من العواقب الوخيمة، وأنه كذلك من عند ربكم الذي خلقكم، وهو بكم رءوف رحيم؛ فاقبلوا موعظته لكي تفلحوا.
فتكون الموعظة بالنسبة للنفس الإنسانية بمثابة التخلية، والتنقية من الهواجس، والأمراض النفسية، ليتأتى بعد ذلك العلاج الكامل، والشفاء التام وهو:
الهداية الخامسة: ﴿وَشِفَآءٞ لِّمَا فِے اِ۬لصُّدُورِ﴾.
هذا هو لب ومحور هذا الدرس، وهو شفاء ما في الصدور من الأمراض المختلفة، كالخوف من المجهول، والقلق من الواقع، والاكتئاب في سائر الأحوال، والعجز عن مقاومة كوابيس اليأس، والقنوط.
يقول الطاهر بن عاشور: “وحقيقته –أي الشفاء-: زوال المرض والألم، ومجازه: زوال النقائص، والضلالات، وما فيه حرج على النفس، وهذا هو المراد هنا”([2]).
فظهر من كلامه رحمه الله أن القرآن الكريم يزيل نقائص النفس من جهالاتها، وانحرافاتها، ويدعوها إلى طاعة الله تعالى، واتباع أمره، واجتناب نهيه، كما يزيل ما فيه حرج على النفس من كوابيس الكآبة، واليأس، والقنوط، والعنت، وغير ذلك من الأمراض النفسية.
الهداية السادسة: هداية القرآن.
مما يهدي إليه قوله تعالى: ﴿وَهُدىٗ﴾ أن القرآن الكريم بعد كونه موعظة بليغة، وشفاءً تاماً لما في الصّدور، فهو كذلك هدى للمؤمنين، يهتدون بهديه ويستنيرون بنوره، وبذلك يكونون على أتم الصفات، والأحوال الموجبة للطمأنينة، والسكينة، والسعادة التامة؛ لأن القرآن الكريم يفتح على أهل الإيمان أفقا واسعا من الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسوله، واليوم الآخر، والقدر خيره، وشره، فلا ينزعجون بالمقادير؛ لأنها اختبارات للعباد؛ فمن رضي فله الرضى، ومن سخط فله السخط، كما جاء في الحديث النبوي.
فيذوق المؤمن بذلك طعم الإيمان، ويحصر غايته في مرضاة مولاه، فيكون أمره كله خيرا له، كما قال النبي ﷺ: «عجبا لأمر المؤمن، إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر، فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء، صبر فكان خيرا له»([3]).
وعندما يتأمل المؤمن فيما أعطاه الله تعالى من أسباب الهداية زاد اهتداءً، مِنْ خلْقِه إنسانا ومنحه عقلا، وإعطائه سمعا وبصرا وقلبا؛ للتأمل، والتدبر في ملكوت الله، كما قال سبحانه: ﴿قُلْ هُوَ اَ۬لذِےٓ أَنشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ اُ۬لسَّمْعَ وَالَابْصَٰرَ وَالَافْـِٕدَةَۖ قَلِيلاٗ مَّا تَشْكُرُونَۖ﴾ [الملك: 24]. أي: قليلا ما تشكرون هذه النعم إذ لم تستخدموها في الدلالة على المنعم جل وعلا.
أما إذا أضيف إلى ذلك الإيمان والعمل بما يقتضيه لصالح الدين، والدنيا، والآخرة، فقد بلغت الهداية غايتها، وأثمرت في قلب المؤمن من اليقين، والتوحيد، والتحرر ما لا يسمح في حال من الأحوال بوساوس الشيطان، وهواجس النفس الأمارة بالسوء من الاقتراب، فيعيش المؤمن صحيح النفس، والعقل، والجسم، والروح، ويرى في كل ما حوله ألطاف الله تعالى سارية في كل الأكوان.
الهداية السابعة: ﴿وَرَحْمَةٞ لِّلْمُومِنِينَۖ﴾.
تهدي هذه الخاتمة المباركة للآية إلى أن من استفاد من موعظة القرآن واشتفى بشفائه، واهتدى بهدايته، فإن الغاية التي سيصل إليها هي الرحمة بكل معانيها؛ الرحمة المعنوية التي تتنزل بقراءة القرآن، كما قال تعالى: ﴿وَإِذَا قُرِۓَ اَ۬لْقُرْءَانُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُۥ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَۖ﴾ [الأعراف: 204]. وهي التي يجدها الحيران عند سماع القرآن، فيطمئن، ويستكين. والرحمة المادية في كل ما آتاه الله من فضله صحة، وأولادا، ومالا، وغير ذلك من المنافع الدنيوية، ولا يشعر بالنقصان لجلال المنعم في عينه من خلال النعم.
هذه بعض التأملات التي أوحت بها هذه الآية الكريمة في موضوع الصحة النفسية، الذي ينبغي للإمام قبل أي شخص آخر أن يستوعبه، ويعالج بها أمراض الناس المختلفة، فالناس عندما يأتون إلى الإمام يستشيرونه في مشاكلهم المختلفة، إنما يطلبون عنده علاجا نفسيا، مِنْ حملهم على الصبر، والإيمان، واليقين بالله تعالى، والرضى بحكمه، والرغبة فيما عنده من الجزاء العظيم لأهل الإيمان، وغير ذلك من أسباب العلاج النفسي التي تجعل المؤمن يعود مرتاحا مطمئنا سعيدا، وذلك ما تهدف إليه خطة تسديد التبليغ لتسديد أخلاق الناس، وتحقيق إسعادهم، ورفع الحرج والعنت عنهم.
وإلى لقاء آخر بحول الله والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
([1]) ينظر مقاييس اللغة لابن فارس، مادة وعظ، 6/126.
At vero eos et accusamus et iusto odio digni goikussimos ducimus qui to bonfo blanditiis praese. Ntium voluum deleniti atque.